الاتجاهات الحديثة في سوسيولوجيا التنمية:
شغلت قضية
التنمية والتخلف – ولا تزال – اهتماما كبيرا على الصعيدين الأكاديمي والسياسي منذ
ما عرفه العالم من تحولات اقتصادية، سياسية، اجتماعية وثقافية، بعد الحرب العالمية
الثانية، وكذلك ما أحدثته كل من الثورتين الفرنسية والثورة الصناعية، حيث أن هذه
القضية هي إحدى القضايا دائمة الحضور في الجدل بين الشمال والجنوب، حتى ولو تغيرت
أشكال طرحها أو مسلماتها أو محاور الاقتراب منها وبؤر التركيز فيها، تبعا لتغير
مصالح واهتمامات ورؤى الطرف الأقوى في المعادلة الدولية.
انطلاقا مما سبق نلاحظ أن الاهتمام بموضوع التنمية والتخلف ليس وليد اللحظة
الراهنة، بل على العكس من ذلك له جذور في الماضي، حيث حظيت هذه الإشكالية باهتمام
العلوم الاجتماعية وخاصة منها علم الاجتماع الذي عرف بمجموعة من النظريات
السوسيولوجية والمقاربات المعرفية للإشكالية ذاتها، وتدخل هذه المقاربات في إطار
النظريات السوسيولوجية الكبرى، كالنظرية الماركسية والنظرية البنيوية الوظيفة.
وترجع حدة هذا الاهتمام المتزايد بقضايا التخلف والتنمية إلى الطبيعة البنيوية
لظاهرة التخلف الذي يتميز عن غيره من الوقائع الاجتماعية الأخرى بالتركيب والتعقيد
وبالدينامية، التي تجعل منه دائما في تغير مستمر، هذا بالإضافة إلى كون مطلب
التنمية هو مطلب تاريخي تتطلع إليه كل المجتمعات بمختلف مكوناتها وشرائحها، الأمر
الذي جعل موضوع التنمية من أهم قضايا العصر، مما حتم على الباحث داخل العلوم
الاجتماعية ولاسيما علم الاجتماع، الاجتهاد للإحاطة بإشكالية التنمية من خلال
مقاربة ظاهرة التخلف من زاوية معينة والتي تختلف باختلاف توجهات الباحثين
الإيديولوجية ومشاربهم الفكرية.
ومن أهم الاتجاهات والمقاربات النظرية التي حاولت أن تتطرق لإشكالية التخلف
والتنمية، نجد ما يلي :
- اتجاه النماذج أو المؤشرات.
- الاتجاه التطوري المحدث.
- الاتجاه الانتشاري.
- الاتجاه السيكولوجي أو السلوكي.
- الاتجاه الماركسي المحدث أو اتجاه التبعية.
- اتجاه المكانة الدولية.
ويمكن تلخيص أهم ما جاءت به هذه الاتجاهات في:
1) النظرية التطورية الجديدة:
والتي جاءت لإحياء المنظور التطوري الذي كان سائدا عند هربرت سبنسر وتشارلز
داورني، الذي كان ينكر ضرورة وأهمية الثورة، كما أكدت هذه النظرية الطابع التقليدي
للمجتمعات المتخلفة، أي أن هاته المجتمعات وحدها تتحمل مسؤولية تخلفها، متجاهلة
بذلك الدور التاريخي الذي قام به المجتمع الغربي في هذه المجتمعات .
وقد استفادت هذه النظرية من دراسة المجتمعات النامية وذلك من خلال :
تحديد المراحل
المختلفة التي مرت بها المجتمعات المتطورة ( المصنعة ).
قياس المسافة
المتبقية بين النموذجين المتقدم، والمتخلف، أي معرفة المدة اللازمة لكي يلتحق
البلد المتخلف بالبلد المتقدم النموذج. وخير من يعبر عن هذا الاتجاه هو روستو
بمراحل النمو الخمس وهي:
1. مرحلة المجتمع التقليدي.
2. مرحلة التهيؤ للأنطلاق.
3. مرحلة الانطلاق.
4. مرحلة النضج .
5. مرحلة الاستهلاك الوفير.
2) الاتجاه الانتشاري:
يقوم على مسلمة أساسية هي أن الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة تمثل بالنسبة
للدول النامية أمل أو صورة المستقبل التي ينبغي أن تحتذى وذلك عن طريق نقل العناصر
الثقافية ( المادية والروحية )، من المتقدمة إلى المتخلفة ونشرها فيها. ويعتبر
دانييل لينر أحد رواد هذا الاتجاه، والذي يشكو ( الاتجاه الانتشاري ) من ضعف نظري
أساسي يتمثل في:
• تأكيده المستمر على فكرة الثنائية ( تقليد / تحديث ).
• اهتمامه بالأجزاء وابتعاده عن أي نظرة شاملة، بمعنى أن
تغيير العلاقات بين الأجزاء هو السبيل إلى تجاوز الفروق والاختلافات.
• الانحراف عن المهام الأصلية التي سعى منذ البداية إلى
تحقيقها وابتعاده عن أعمال الرواد المحدثين.
3) الاتجاه السيكولوجي أو السلوكي:
حيث يحاول هذا الاتجاه التركيز على درجة " الدافعية " الفردية، أو
الحافز الفردي باعتباره الدعامة الأساسية للتنمية، ولا بد وفق هذا الاتجاه من
تحديد الصفات السلوكية والنفسية للإنسان المتقدم سواء الآن، أو إبان فترة "
الإقلاع " التنموي الأولى، باعتبارها الموذج الذي على الإنسان المتخلف تقليذه
وحذوه .
ومن أهم رواد هذا الاتجاه نجد: دافيد ماكليلاند وهيجن هذين الرائدين الذي يقول
في حقهما السيد محمد الحسيني بأن : " أفضل وصف لوجهتي نظر ما كليلاند وهيجن
أنهما بمثابة تشويه لآراء ماكس فيبر... " . رغم كون هذا الاتجاه هو رد فعل
للاتجاهات النظرية الأخرى التي ركزت في تحليلاتها على العوامل الاقتصادية،
الاجتماعية، الثقافية والسياسية.
4) الاتجاه الماركسي المحدث أو اتجاه التبعية:
شكل اتجاه التبعية تيارا نقديا مناهضا لتيار التحديث الذي يضم جميع الاتجاهات
المذكورة سالفا، وهو بذلك استجابة نقذية " لوجهة نظر المراكز الكولونيالية
"، حسب Dos Santos في قضايا التخلف
والتنمية. فماذا نقصد بالكولونيالية؟
الكولونيالية تعنى احتلال دولة لدولة أخرى خارج حدودها سياسيا واقتصاديا
بالاعتماد على القوة العسكرية، أي الاستعمار، لكن هذه الدول حصلت على الاستقلال،
فماذا بعد الكولونيالية؟
يعرف الباحث كريس دوهمان نظرية ما بعد الكولونيالية بأنها حركة فى النقد
الاجتماعى والأدبى التى ترد على آثار الامبريالية الأوروبية على الشعوب المستعمرة
، إن ما بعد الكولونيالية تقدم سردية مضادة تتصل بالشعوب المستعمرة سابقاً ، أو
تسرد بالوكالة عن خصومها ؟ وذلك بشأن الافتراضات المتمركزة إثنياً فى الثقافة
الغربية ، ويضيف هذا الباحث موضحا ، أن دلالة مصطلح ما بعد الكولونيالية لا تتضمن
فقط بعد المرحلة الاستعمارية بل إنها مقاربة نقدية أيضاً التى تبرز من الاستعمار
لتصارع أسسه.
إذا كانت ما بعد الكولونيالية مقاربة نقدية ، فذلك أنها لا تنتقد الافتراضات
الغربية المتمركزة إثنياً على أساس أن الشعوب الغربية الآرية أكثر مدنية وتحضرا
وديمقراطية وعقلانية من الشعوب المستعمرة سابقا فقط ، إنما يمتد نقد هذه المقاربة
إلى مرحلة ما بعد الاستقلال ، لأن هذه الحقبة القصيرة من حيث المدى الزمنى لا تمثل
قطيعة تامة مع آثار وكدمات ، أو لنقل التأثيرات النفسية والثقافية والاجتماعية
والاقتصادية التى تعرضت لها الشعوب المستعمرة فى العالم الثالث على مدى مئات
السنين ، والدليل على ذلك ، أن مجتمعات هذا العالم لا تزال تابعة للمراكز الغربية
على مستوى جميع النواحي.
وقد تضمنت مدرسة التبعية مجموعتين متميزتين من الاقتصاديين هم:
o مجموعة البنيويين في
شخصها Celso Furtado.
o مجموعة من الماركسيين
الجدد، مثل: سمير أمين وأندري جوندر فرانك.
حيث يقول جوندر فرانك: " إنهم لن يتمكنوا من تحقيق هذه الأهداف باستيراد
القوالب الكلامية العقيمة من المركز والتي لا تتماشى مع حقيقة اقتصادهم التابع،
ولا تستجيب لاحتياجاتهم الاستقلالية السياسية "
5) اتجاه المكانة الدولية:
تعتمد هذه النظرية على وجود نوع من البناء الدولي في ضوئه يمكن أن تتدرج دول
العالم وفقا لمحكات معينة.
ونجد بارسونز قد ذهب إلى أن الاستقطاب خاصية أساسية تميز المجتمع الدولي
المعاصر.
في حين أن لاجوس Lagos قدم إطار فكري يقوم على فكرة أن المجتمعات القومية تشكل
نسقا اجتماعيا دوليا، وأن هذه المجتمعات تحتل داخل هذا النسق أوضاعا مختلفة يمكن
ترتيبها أو تدريجها في ضوء المركز الاقتصادي والقوة والهيبة .
ونجد لاجوس أولى الدول المتخلفة نوعا من الاهتمام، حيث أن انخفاض هذه المكانة
يكون إما جزئي، ويعني عدم القدرة على اتخاذ موقف الريادة التكنولوجية، وإما كلي،
ويعني فقدان التنمية الاجتماعية أو انخفاض مستوى المعيشة.
كما أن هناك مجموعة من نظريات مفكرين بخصوص هذا المجال، أمثال: هورفيتر،
بيندكس، نيتل وروبرتسون.
أما بخصوص اتجاه النماذج والمؤشرات والذي هو الموضوع الرئيسي في عرضنا
هذافسنتطرق له باستفاضة من خلال المحور التالي.
لقد حاول
الأستاذ الدكتور عبد السلام فراعي، في الفقرة الثانية من الفصل الثاني المعنون ب :
" ميادين البحث في سوسيولوجيا التنمية " ، أن يعالج العديد من الأسئلة
المتعلقة بالاتجاهات النظرية المتصلة بسوسيولوجيا التنمية، وقد أطر مقاربته هذه
بالقضايا التي اهتمت بها هذه الاتجاهات، والتي تتلخص في الأسئلة التالية :
1) ما هي الأسباب أو العوامل الكامنة وراء ظاهرتي التخلف
والتنمية؟ ولماذا استطاعت مجتمعات معينة أن تنمو بشكل أسرع من مجتمعات أخرى؟.
2) ما هي الاتجاهات التي تتخذها عملية التنمية
الاقتصادية والتغير الثقافي، وهل يمكن القول بأن ثمة مراحل تنموية متتالية؟
3) إلى أي مدى تتطلب التنمية الاقتصادية حدوث تحول
اجتماعي – ثقافي؟
4) كيف تستجيب الدول النامية للمؤثرات المختلفة التي
تتلقاها من المجتمع الدولي؟
وبعد ذلك عمد إلى تقسيم هذه الاتجاهات وفق تصور ينطلق من مرجعيتها الفكرية،
وهذا ما تأتى له باعتماد رؤية ثنائية ركناها: المرجعية الماركسية والمرجعية
الفيبيرية، بمعنى النظريات الكلاسيكية في التنمية، بالرغم من كون البعض يرفض هذا
التقسيم بين النظريات الكلاسيكية والنظريات الحديثة في التنمية.
ويمكن تلخيص أهم ما جاءت به هاتين النظريتين في الجدول التالي:
الاتجاه المادي: كارل ماركس :
- البداية: علاقة الإنسان بالطبيعة وبالوسائط التي تنتج
الخيرات المتفاوت في امتلاكها.
- الواقع الاقتصادي.
- التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية تحدد الثقافة.
- الرأسمالية خلقت الثروة واقتصاد السوق.
الاتجاه المثالي: ماكس فيبر:
- البداية: نظام الأفكار والعقائد والقيم الفاعلة في
النشاط الاقتصادي.
- القيم الثقافية.
- القيم الثقافية تحدد نوع ومستوى النشاط الاقتصادي.
- البروتستانية خلقت العقلانية الاقتصادية،والحداثة
الديمقراطية.
نلاحظ أن
هاته النظريات قد تأثرت بالاتجاه التاريخي الذي سيطر على الفكر الاجتاعي، ورغم كون
هذين الاتجاهين متعارضين إلا أنهما يتكاملان في معالجة مسألة التخلف والتنمية.
ودليل ذلك ظهور عدة نظريات في سوسيولوجيا التنمية، انطلقت بشكل أو بآخر من الثرات
الماركسي أو الفيبيري. فإلى أي مدى استطاعت هذه الاتجاهات الإسهام في التشخيص
العلمي لما يصطلح على تسميته بواقعة التخلف؟ وما هي نوع التطورات المقترحة من أجل
أن تأخذ بها المجتمعات المتخلفة وتسترشد بها إذا أرادت الخروج من وضعها المتخلف إلى
وضع متقدم؟ .
سبق وأشرنا في مقدمة هذا العرض إلى الاتجاهات النظرية الحديثة للتنمية، إضافة
إلى اتجاه النماذج والمؤشرات، الذي اعتمد على معالجة مشكلات التنمية الاقتصادية
والتغير الثقافي بإقامة نماذج مثالية متقابلة بعد القيام بمقارنات عديدة.
ومن أهم ممثلي هذا الاتجاه نجد:
مانتج ناش:
رئيس تحرير مجلة التنمية الاقتصادية والتغير الثقافي، والذي خلص إلى القول:
اتجاه النموذج
المثالي، يقوم على فكرة النموذج المثالي.
تجريد الخصائص العامة
للاقتصاد المتقدم.
مقابلة النموذج
المثالي للاقتصاد المتقدم، بالنموذج المثالي للخصائص العامة للاقتصاد المتخلف.
ومنه فإن التنمية حسب ناش تمثل تحولا من نموذج لآخر.
ويمكننا انطلاقا من ذلك أن نجد أمثلة عديدة عن هذه النماذج مثل:
مؤلف هوسيليتز:
" العوامل السوسيولوجية للتنمية الاقتصادية ".
مؤلف تالكوت بارسونز:
" البنية والعملية في المجتمعات الحديثة ".
أعمال ماريو ليفي.
مؤلف E. Hagen : " نظرية في
التغير الاجتماعي ".
هوسيليتز:
الممثل الرئيسي لاتجاه المؤشرات حيث نشر نظريته بهذا الخصوص لأول مرة سنة
1953، في مقال بعنوان: " البنية الاجتماعية والنمو الاقتصادي "، الذي
أعاد كتابة بعض أفكاره في مقال نشره سنة 1963 بعنوان: " التراتب الاجتماعي
والتنمية الاقتصادية "، حيث وضح في هذين المقالين كيف أن الدول المتقدمة تشهد
متغيرات النموذج، وذلك كما يلي:
النموذج المثالي للمجتمعات المتقدمة النموذج المثالي للمجتمعات
المتخلفة
- العمومية
- الأداء
- التخصيص - الخصوصية
- النوعية
- الانتشار
ويخلص هوسيليتز، إلى الاعتقاد أنه يمكن للدول المتخلفة أن تحقق تنميتها عن
طريق التخلي عن متغيرات النموذج السائدة فيها (المجتمع التقليدي)، وتبني أو اكتساب
واستيعاب المتغيرات السائدة في الدول المتقدمة.
طرح هوسيليتز، يستمد روحه من النظرية الثنائية كتقليد سوسيولوجي يصنف
المجتمعات إلى مجموعة من ثنائيات متمحورة حول ازدواجية، التقليد / الحداثة.
كما أن محاولات Hagen بدورها سقطت في أحضان النظرية الثنائية وفخ الأمبريقية
الضيقة العمياء.
جورج بلاندي:
وقد أشرف جورج بلاندي ( الذي رأى أن النظرية الثنائية ليست سوى خطاطة عامة
تفتقد للقيمة التفسيرية )، على دراسة استخدمت المؤشرات الكمية، حيث نجد أن مؤشرات
التخلف تصل إلى 11 مؤشرا هي:
1. ارتفاع نسبة الوفيات وبالخصوص وفيات الأطفال.
2. ارتفاع نسبة الخصوبة.
3. انعدام الوقاية الصحية.
4. ارتفاع نسبة الأمية.
5. سوء التغذية.
6. استهلاك ضعيف للطاقة.
7. ارتفاع نسبة المزارعين.
8. تدني المكانة الاجتماعية للمرأة.
9. تشغيل الأطفال.
10. حجم الطبقة المتوسطة.
11. حجم المجتمع.
كما يمكن إضافة مؤشرات أخرى، كمتوسط الدخل الفردي ودرجة التصنيع، وطبيعة
الحراك الاجتماعي. ويرى بلاندي أن:
·
اتجاه المؤشرات الكمية لم
يعمل سوى على جمع ركام مؤشرات غير متجانسة، ومعطيات إحصائية وخصائص بنيوية.
·
يؤدي هذا الاتجاه
بالضرورة إلى إقرار تصور استاتيكي للمجتمع موضع الدراسة.
·
واقعة التنمية تستلزم
تصورا ديناميا ومعرفة بالعمليات التي تصنف الانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى.
·
استعمال المؤشرات يساعد
على رصد التخلف ووصف تجلياته فقط ولا يفسر الواقع.
·
أغفل هذا الاتجاه
ميكانيزمات التخلف.
وقد لخص تشارلز كيند لبيرجر عناصر هذا الاتجاه كما يستخدمه علماء الاقتصاد،
وخبراء البنك الدولي بقوله:
" يمكننا عزل السمات النموذجية المثالية المعبرة عن
التخلف عن تلك المعبرة عن التقدم، بحيث تبقى لنا السمات التي هي بحاجة إلى تنمية
والتي من أجلها يجب أن تخطط المشروعات ".
وهناك عدة اتجاهات مع شروحاتها على الرابط التالي:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=12326
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire